
عصام
تذكرت أيمن. كلما قتلت إسرائيل طفلاً تذكرت أغنية مارسيل خليفة. “قرع النهر الأجراس المنسية في الأحلام”، كتب شوقي بزيع، “ارتدت الأرض صدور الشهداء، وجاءت كي تشهد أيمن وهو ينام”.ربما لأنها ليست أغنية، بل رثاء. مع أنه ليس طفلاً، عصام عبد الله الذي قتلته إسرائيل الجمعة. هو شاب قبل أيام كان عيد ميلاده السابع والثلاثين.ربما هي ملامح وجهه الوسيم، تجعله يبدو أصغر حتى من عمره القليل. ربما هو مرحه، كأنه كالأطفال يلهو طوال الوقت. كأنه لا يتوقف عن الابتسام إلا حين ينام.وقد نام. احتلت صوره السوشال ميديا. عصام الذي يعرفه الجميع، حتى يكاد الذي لا يعرفه فهذا لا شك خطؤه وليس خطأ عصام. ولو أن الوقت سنح له، لو إن إسرائيل لم تقتله، لبذل جهده في التعرّف عليه، ولترك في نفسه أثراً طيباً.عصام من الذين يتركون الأثر الطيب. أنا الذي تركتُ لبنان قبل عشر سنوات، حاولت أن أتذكر كيف ومتى تعرّفنا على بعضنا. ففعلت ما بتنا نفعله جميعاً حين يغادرنا شخص نعرفه. استرجعت الرسائل المتبادلة. أوّلها يخبرني سراً مفاده أنه هو الذي يصمم صوراً بتعليقات ذكية ومضحكة، وآخرها يعزّيني بأبي. قرأت الرسائل وعدت أقرأ ما يكتبه أصدقاؤه عنه. اتصل بي صديقي من بيروت كي يبكي. اختنقت. هو هذا الإنقباض في الصدر حين يكون القهر أثقل من القلب. القهر على العمر المقتول غيلةً. على الحياة الملآنة بآمالها وأحلامها حين تُسحب عنوةً من جسدها فتظل تحوم فوق سباته لا تعرف ماذا تفعل أو أين تذهب. القهر من الدولة الكريهة التي قتلته وكانت ستقتل معه صحافيين آخرين. الدولة الهمجية التي تقصدت قتلهم وكان صدفة أنها نالت منه وحده ونجا الباقون، المراسلون، المصورون، الزملاء الذين أقصى ما يستطيعونه ضد الوحش خوذة ودرعاً واقياً. القهر من برودة المؤسسات الغربية، ومهنيتها الفائضة في نعي من يفترض بهم أنهم أبناؤها، فلا نعرف من القاتل، ولا نعرف كيف قُتل القتيل. لا نعرف إلا اللغة حين تصفعنا بجفافها وحياديتها، كأنَّ ذكاء اصطناعياً مقيتاً كتبها، لا يحيد فيها ولو سمك شعرة عن الخط. القهر من أن لا عدالة ستتحقق مع آلة القتل الهائلة هذه، لا تفرّق بين مهمتها الأصلية في قتل ما استطاعت من المدنيين الأبرياء، وبين صحافيين ومسعفين. القهر من أن جريمة كبرى تقع الآن في فلسطين تحت أنظار عالم لا يتكلف عناء رفع حاجبيه استغراباً. القهر من الظلم.لا عدالة ستتحقق ولن “يقتص أحد من الجاني”، على ما تقول العبارة المنمقة. إسرائيل، وخلفها الغرب كله، في غضب شديد. حين يغضب هؤلاء، يحق لهم أن يفعلوا ما شاؤوا. “تعاطفهم” مع الفلسطينيين منّة منهم، سبيل ماء يتحكمون بمجراه. تعاطفهم مقنن ومدروس، أما غضبهم فتوراتي. وحين يصير الغضب مقدساً، يصير الدم المقابل ماءً. يصير كل من يصادفونه في دربهم هدفاً، مدنياً كان أو صحافياً. عصام كان أو أيمن أو شعباً برمته.وهو خيط طويل، يلتقطه أيمن من طرف القصيدة، وعصام يلتقطه من الطرف الثاني. قتلت إسرائيل أيمن وقتلت عصام. بينهما عقود من القتل نفسه. كان أتمّ السابعة والثلاثين في أيلول. يبدو أصغر سناً من عمره القليل. في صوره يبدو طفلاً يلهو. اليوم يضم نعشه فتى مرحاً عاد طفلاً. اليوم يعود عصام إلى حضن أمه طفلاً. اليوم يتمدد في التراب طفلاً. يعود طفلاً وليس في حكايته مجاز كافٍ لدفعه إلى الابتسام. لن يبتسم. سيظل مع ذلك الأثر الطيب الذي كانه. سيظل في عيون ناسه، يبتسمون له ويبتسم لهم.